فن

مسلسل «دواعي السفر»: كيف تجد الأنس في نادي الوحدة؟

في «دواعي السفر» يصير نادي الوحدة حيلة جمالية لمخاطبة جمهور يدرك أنه يحيا في أكثر العصور تواصلية بالمعنى التكنولوجي وأكثرها كدحاً بالمعنى الرأسمالي.

future بوستر مسلسل «دواعي السفر»

انتحار تقاطعه مكالمة آلية

«عندما يدخل رقم هاتفك في عالم العقارات الافتراضي لا يخرج أبدًا».

جملة أخبرني بها صديقي ضاحكاً عندما شكوت له من مكالمات سماسرة العقارات التي لا تكف عن تقديم عروضها أبداً، أخبرني أنني لست الضحية الوحيدة ولا الأولى حتى، شكل أصدقائي نادياً سرياً لتبادل المعلومات حول الضحية صفر، الصديق الذي بدأت عبر بياناته تلك العدوى العقارية في مجموعتنا.

مما يثير الفضول في الأمر أنك تخبر موظف شديد التهذيب أنك تقطن حياً شعبياً وأنك لا تمتلك مليوناً واحداً فضلاً عن عشرة ملايين لاستثمارها في شراء فيلا بالمدن الجديدة، تبدو المعلومة كافية لطردي بلا رحمة من جنة الموعودين بالعروض الخيالية، يستمع محدثي بصبر وقور ثم يعاود الحديث عن عروضه مثل أسطوانة محطمة، مضبوطة على نغمة لا بد أن تكتمل مهما قاطعتها. لأن مكالمته مراقبة بعناية ولا بد أن يبدو مثالياً في طرح عرضه كاملًا لكيلا تتأثر نقاط تقييم أدائه.

يتحدث الموظف المهذب عن مزايا فيلا دافئة، يمكن فيها لعائلتي أن تجد سعادتها، يمكنني استقبال الأصدقاء وإقامة حفل شواء أو أمسية صيفية على المسبح، محادثة حول كادرات سعيدة تفيض بالونس وتخلو من الوحدة، محادثة تدور بين رجل لن يحيا في تلك الفيلا أبداً وموظف يوقن أن كلماته لا تقع على أذن مصغية. فكرت كثيراً في الانفجار غضباً بالرجل لكنه بدا لي عالقاً في مكالمة سيزيفية سيكررها بلا ريب مع عشرات غيري. رجل وحيد عالق في محادثة أبدية حول ونس موعود في منزل باهظ الثمن وبعيد.

يبدأ مسلسل «دواعي السفر» بمكالمة شبيهة، بينما يستعد مخرج الإعلانات الشهير علي للانتحار بجرعة زائدة من الأقراص المخدرة في غرفة واسعة قليلة الأثاث لتؤطر وحدته بصرياً، تنقذ حياته مكالمة رتيبة من سمسار عقاري، يقدم عروضه بحماس آلي.

أمير عيد من مسلسل «دواعي السفر»

 يخبره علي ساخراً أن عملية انتحاره قوطعت، وأن العرض مشوق ولكن يمكن مناقشته مع ورثته بعد موته، يستمع الموظف بصبر وقور ثم يكرر تفاصيل عرضه كأنه لم يكن للتو أب اعتراف لرجل يخبره بموته الوشيك.

لن تؤسس تلك المكالمة نادياً سرياً حول سماسرة العقارات مثلما فعل أصدقائي إنما سيتمخض عنها ناد للوحدة يضم العالقين في كادرات موحشة والباحثين عن أنس لا تقدمه العروض التجارية.

قصص لا تغادر حي المعادي

في ثاني تجاربه مع المطرب أمير عيد بعد مسلسل «ريفو» وأولى تجاربه الإخراجية على الإطلاق، يقدم محمد ناير مسلسله القصير «دواعي السفر» الذي يدور حول مخرج الإعلانات الشهير علي الذي يعود إلى شقة الأسرة القديمة بالمعادي بعد وفاة أبيه، لتتجدد جيرته بالقبطان إبراهيم الذي كان قديماً صديقاً لأسرته.

مشهد من مسلسل «دواعي السفر»

لا يغادر محمد ناير حي المعادي العريق الذي بدا في «ريفو» مسرحاً مثالياً لاستعادة نوستالجيا التسعينيات وماضي فرقة موسيقية قديمة على طريقة فيلم «آيس كريم في جليم» الذي دارت أحداثه بالحي ذاته.

يبدو المعادي فضاءً مكانياً مثالياً لحكايته الجديدة «دواعي السفر» التي تدور عن الوحدة والفقد، حي يشتهر بميادينه التي تتطابق تصميماتها وشوارعها التي لا تزينها أسماء إنما أرقام جافة تحفز التيه أضعاف ما تحفز الوصول.

حي يستضيف الطبقات الأعلى قليلاً من الوسطى والأدنى قليلاً من الطبقات العليا التي تتحمل كلفة سكنى المدن الجديدة، طبقات ترث مجدها وهويتها من أجيال سابقة فرت بعائلاتها قديماً من الزحام لحي تكسوه الأشجار لتبعد المتطفلين ولكنها تبعد الونس والوصال كذلك.

نجح البطل علي في رحلة صعود طبقية سريعة في سكنى مدينة زايد خارج حياة أبيه في أستوديو التصوير القديم بالمعادي، ونجح القبطان العجوز إبراهيم في توفير المدخرات الكافية لإرسال ابنته إلى الطرف الآخر من العالم بقارة أستراليا لاستكمال تعليمها وخلق حياة جديدة تخصها خارج حي طفولتها القديم.

أمير عير في مشهد من مسلسل «دواعي السفر»

يعود البطل علي بعد فقده أباه إلى حي المعادي القديم متخففاً من ثروته ومسيرته المهنية الواعدة وحياته وأصدقائه في مدينة زايد الراقية، في نكوص طبقي ومعنوي بحثاً عن موت هادئ وعودة مكانية إلى رحم الطفولة الذي بدأ منه كل شيء.

أن تمنحك الوحدة عضوية بنادي القتال

تشكل فكرة النادي الذي يجمع أفراده رابطة شعورية أو عاطفة بعينها، ثيمة خلابة وقليلة في السينما والفن العالمي، كل محنة يمكن أن تجمع ضحاياها في تجمع داعم مثل شعراء مرهفين في مدرسة سلطوية صارمة تكره الشعر في فيلم «Dead Poets Society»، أو مرضى موصومون بالخزي في منظومة صحية تسحقهم في فيلم «Dallas Buyers Club»، لكن أشهر الأندية في الفن العالمي وأقربها إلى جوهر «دواعي السفر» هو نادي القتال الشهير في فيلم «Fight Club».

مشهد من فيلم «Fight Club»

يدور فيلم «Fight Club» حول موظف مكتبي يعاني الوحدة والأرق، على رغم استهلاكه كل وعود الحلم الأمريكي مثل وظيفة مرموقة وشقة مؤثثة بالكامل من آيكيا ودليل تلفاز لا يترك له وقتاً لتأمل وحدته دون تشويشها بالترفيه المرئي.

يتوق الموظف إلى الأنس وتخفيف وطأة وحدته بالتطفل على جلسات الدعم النفسي لمرضى السرطان، ينغمس في رثاء الآخرين لذواتهم بينما تقترب أعناقهم من مقصلة الموت، عسى أن تحيي التجربة بداخله امتنانه من جديد للحياة والعيش.

من فيلم «Fight Club»

لا يمتلك البطل صديقاً واحداً لذلك تتشظى مخيلته لتخلق صديقاً خيالياً يحول وحدته وتعطشه لصديق واحد إلى طاقة انتقامية تحطم بالعنف العالم الرأسمالي بأكمله الذي وعده بالسعادة وتركه وحيدًا بين أجهزة ومواد استهلاكية تزيده جوعاً لاتصال حقيقي بالبشر.

يحول البطل عاطفته الفردية إلى نادٍ جماعي للقتال، يدعم فيه أفراده بعضهم بعضًا في غضب يفرغ بالكامل للخارج. لينتهي الفيلم بعالم كامل يتحطم بسبب رجل وحيد أسس نادياً لأشباهه.

قتال في مشهد من فيلم «Fight Club»

تمثل شخصية علي كل ما يحتقره تايلر دردن بطل نادي القتال، فهو مخرج إعلانات كاذبة، تروج لشركات الاتصالات عبر مشاهد حميمية للعائلة والأحباب وتجمعات الأصدقاء، مشاهد في قلبها برج اتصالات معدني يعد الشبكة الأكثر قوة. لتحقق وصالك مع من حولك

يبرع علي في مهنته لكنه يدرك جيداً زيفها، في عالمه لا أحد يمتلك وقتاً أو مساحة كافية للوصال، يحيا علي في أكثر حقبة تكنولوجية مصممة ضد الوحدة، لكنها للمفارقة الحقبة التي تتفشى فيها الوحدة كوباء كوني لا علاج له بلقاح أو مصل.

بدأ علي شغفه صغيراً بمراقبة والده في أستوديو التصوير الصغير، يحول الأب مهنته إلى حيلة جمالية ليخرج طفله المنطوي من عزلته، يخبره أن الصور كافية ليعبر بها عن ذاته من دون الحاجة لفيض الحديث.

من مسلسل «دواعي السفر»

يشبه الأب في الحكاية شخصية سيد المصور في «اضحك، الصورة تطلع حلوة» رجل بسيط لا تمثل الكاميرا له وسيلة للرزق وبحسب إنما امتداد لذاته ورؤيته للعالم، يتورط سيد في بداية الفيلم بمحادثة شيقة مع بائع خضراوات نزق، ليخبره أن صورة بطاقته ستكون صورة زفافه وصورته في محله الذي سيشتريه مستقبلاً، وصورته التي ستنقذه من مخبر قاس في ليلة مظلمة، تتحول صورة ثابتة إلى تعبير كامل عن الذات في كل تجلياتها.

مشهد من فيلم «اضحك الصورة تطلع حلوة»

تصنع تلك الفلسفة من سيد رجلاً عبقرياً، لكنها لا تمنحه الطموح الكافي للصمود في مدينة مثل القاهرة مع طبقات أعلى تتورط ابنته في حب أحد أبنائها في تجربة مذلة، تؤكد له أن فلسفته الجمالية لا تكفي كسلم للصعود الطبقي

يمتلك والد علي في «دواعي السفر» المعضلة ذاتها عندما تهجره زوجته لمحدودية طموحه واكتفائه بأستوديو تصوير بسيط بالمعادي.

يستعير علي الكاميرا والفلسفة الجمالية التي علمه إياها والده، في صنع رواية انتقامية من أمه التي رحلت وفتت شمل أسرته.

مسلسل «دواعي السفر»

بينما عاش أبيه حياته بأكملها في توثيق الوجوه لتروي حكاياتها الحقيقية لا المصطنعة.
يقوم علي بكسر المعادلة ليصطنع بمهارته الصادقة إعلانات عن أحلام ووعود وصال كاذبة تكفل له الثراء الكافي لانتشال والده من المعادي للطبقات الأعلى نكاية في أمه.

يخبره والده أنه في خضم صعوده أعاد تدوير كل ما علمه إياه وابتذله ليصنع به رواية لا تشبهه ولا يريد الانتماء لها، يخسر الابن علاقته بأبيه، ويقدم الأب بموته الكادر الأخير الأكثر صدقاً الذي ينظر إليه الابن ليجد خواء. حياة لا تشبهه اصطنعها لأجل أب لم يعد موجود.

يحول علي خواءه الداخلي إلى عدوان على ذاته ومن حوله، ينهي زواجه وصداقاته ويقرر موته وحيداً كاحتجاج أمام أب غائب وأم قاسية هجرته منذ وقت طويل، جمهور لم يعد موجود ليحضر مشهدية رحيله.

يمتلك القبطان إبراهيم المعضلة ذاتها من منظور أبوي، رجل قضى عمره كاملاً قبطاناً يبحر بسفينته لإيصال غرباء إلى وطنهم، للم شمل أحباب تفرقهم بحار ومحيطات شاسعة، ولكن بتجربة فقد زوجته ومرضه بالقلب المنذر بموته يهندس بعناية رحلة لن يكون قبطانها.

الممثل الفلسطيني كمال الباشا من مسلسل «دواعي السفر»

يرسل ابنته للطرف الآخر من العالم ويؤسس حياة افتراضية كاذبة، مزدحمة بالأصدقاء والأحباب ليقنعها ألا تعود لأجله، يصنع إبراهيم حياة قاسية قوامها الوحدة، يمارس فيها عدواناً عنيفاً على ذاته كي يجنب ابنته معايشة فقد أمها من جديد في موته محتضراً ببطء بمرض مزمن أمامها.

بينما يمثل القبطان إبراهيم جيلاً قديماً ويمثل علي جيلاً وسيطاً، ينتقل المسلسل إلى شخصيات أصغر سناً تنتمي لجيل زد الذي تفتح وجدانه على الحياة في عالم افتراضي يقدم كل وعود الوصال، لكن لا يختلف أبناء هذا الجيل كثيراً عن الأجيال الأقدم، يعانون الوحدة بصور أخرى.

تجيد الشابة داليا أكثر من لغة، تجيد أدوات الوصال اللازمة بثقافات مختلفة، ترتدي ثياب صاخبة يعززها شعر ثائر كيرلي لافت للنظر، لكنها تعايش خوفاً مؤرقاً من أن أحداً لا يراها بدءاً من أبيها الذي لم يلتفت لها في طفولتها وتركها، وصولاً إلى عامل محل القهوة الذي يثير إعجابها لكنه لا يلتفت لها رغم حضورها مراراً وإخباره باسمها.

الفنانة الشابة دنيا وائل، والفنان أحمد غزي من مسلسل «دواعي السفر»

مثل كل شخوص الحكاية تحول داليا وحدتها إلى عدوان موجه للذات في صورة نوبات هلع وغضب مع تغيرات مزاجية تجعلها في وصالها الآخرين أما اقتحامية تغزو خصوصيتهم بحضورها أو انسحابية متشككة تستعرض أدواتها للدفاع عن النفس أمام عجوز ودود لا يقوى على الوقوف.

تحضر شخصية سامي باعتبارها الضلع الأخير في مربع الوحدة، كفتى عاش طفولته باعتباره نابغة، نجح في سن الثانية عشرة في الوصول إلى الجامعة، صنع هذا تميز هويته لكنه أطر وحدته كطفرة عبقرية لا يعاملها أحد بصورة إنسانية.

الممثل الفلسطيني كمال الباشا، والفنان أحمد غزي من مسلسل «دواعي السفر»

 يحول سامي وحدته إلى هوية عقابية عندما يترك ممكنات مستقبله التي تليق بعبقري ليعمل في محل بسيط لبيع القهوة، مهنة لا تحتاج سوى أقل عدد ممكن من المهارات العقلية.

لا يمتلك «دواعي السفر» تشابهاً في الأحداث مع نادي القتال لكن يحمل أبطاله المعضلة الشعورية نفسها، الإحباط والقلق والفقد والوحدة كمشاعر لا يجبرها التعبير والوصال لذلك تصير مقبرة لأفرادها الذين يحولوها إلى عدوانية تمارس على الذات قبل الآخرين.

وبينما عجز بطل نادي القتال عن إيجاد صديق واحد، فتحول عدوانه الداخلي إلى شخصية فصامية تمرر عنفها للخارج، ينجو أبطال «دواعي السفر» من وحدتهم بانفتاح كل منهم على الآخر.

لعبة البازل والمرايا

يبدأ المسلسل بشاب يحاول الانتحار، يتأمل علبة الأقراص حاسمًا أمره، بينما يقطع مهمته مكالمة ثم عجوز يحاول النجاة، يجوب شقته بجنون في محاولة يائسة لاستنشاق هواء يخفف ألم عضلة قلبه التي لا يصلها دم كاف.

رغم كثرة المشاهد الخطابية في المسلسل، التي كان يمكن اختصارها كثيراً وترك المتلقي للأحداث ليستنبط معانيها بنفسه، فإن «دواعي السفر» ينجو في مجمله من فخ التنميط لشخوصه خصوصًا كبار السن.

لا يبدو القبطان إبراهيم مثل تصوير معظم كبار السن في المسلسلات كعجوز حكيم، ولا يستعرض علي مهاراته في الإخراج والتصوير، ولا يقدم الشاب سامي دليلاً على عبقريته، ولا نعرف كثيرًا عن ماضي داليا.

لا تحضر الشخوص كثيراً بقوالبها المتوقعة أو بحمولة ماضيها إنما تروي هذا الماضي كأنها تستعيد أطلال قديمة، تفسر بها الحاضر، يهتم السيناريو أكثر بلعبة المرايا والبازل، كل شخصية مرآة للأخرى، وكل شخصية هي قطعة البازل الناقصة لتكتمل بها أحجية الشخصية الأخرى.

من اليمين: الفنان أمير عيد، وآدم الألفي أحد أعضاء فريق كايروكي من مسلسل «دواعي السفر»

يقدم القبطان إبراهيم فرصة ثانية لعلي في تصحيح أيامه الأخيرة مع أبيه، برعايته لشخصية القبطان الأبوية، وبينما لا يحتاج والد علي أي مساعدة كما تمنى الابن، يظهر القبطان إبراهيم شخصية خائفة وعاجزة تتوق للوصال، لذلك يؤجل علي مشروع موته من أجل فرصة ثانية لإنقاذ شبح أبيه في شخص القبطان.

بينما يقدم علي ذاته إلى القبطان فرصة آمنة لتجربة البنوة لرجل يحتضر، بدأت قصة البطلين معاً بتجربة اقترابه من الموت، بينما ينقله علي في اللحظة الأخيرة للمشفى، كان الفقد مبتدأ الحكاية، لذلك لا يخاف القبطان في وصال شخصية في عمر ابنته، يصارح علي باحتضاره ويحيا معه أيامه الأخيرة من دون ندم أو خوف كما تمنى أن يفعل مع ابنته.

الممثل الفلسطيني كمال الباشا، والفنان أمير عيد من مسلسل «دواعي السفر»

يمثل كل طرف فرصة ثانية للآخر، يجرب علي ما فقده، ويجرب القبطان ما يخافه، ويندهش كلاهما أن مخاوفهما كانت أكبر بكثير من الواقع.

تحدث لعبة مرايا مماثلة في قصة حب داليا وسامي التي تشكل اجتماع النقيضين، فتاة تتوق للظهور ولأن يراها الجميع، وفتى يتوق للاختباء بعبقريته لكيلا يراه أحد، تدرك داليا أن عيناً واحدة تراها بحب تكفي للاستغناء عن الجميع، ويدرك سامي أن عيناً تراه محباً أكثر منه عبقرياً تكفي ليكف عن الاختباء

الفنان أحمد غزي، والفنانة الشابة دينا وائل من مسلسل «دواعي السفر»

يكبر المربع الصغير ببطء ويعلن عن نفسه في صورة نادٍ للوحدة، تتحول الحبكة الخاصة إلى رسالة جماعية تخبر الآخرين بالخروج إنشاً من أقفاص وحدتهم بحثاً عن وصال قد يقدم لهم مرآة أو فرصة ثانية. ولكن هل نادياً للوحدة يكفي لعلاج العقد الشخصية؟

الطب النفسي لا ينقذ الحكاية

في «Fight Club» لا يحب البطل حضور جلسات العلاج الجماعي بحثاً عن حل أو شفاء، يختار بعناية تجمعات المرضى الميئوس من شفائهم، لكيلا يمنحهم الطبيب النفسي الذي يدير الجلسة أملاً كاذباً بالنجاة، يقول البطل لنفسه إن فقدان الأمل في العلاج النفسي كان محرراً له، لأن العلاج النفسي في جوهره لا يخرج في نظره عن المنطق الرأسمالي الحاكم لحياته بأكملها، يدفع النقود لأجل شخص يخبره عن سبل للنجاة الفردية في عالم يحتاج ثورة جماعية لتغيير منظوره للأشياء.

في «دواعي السفر» لا يظهر الطب النفسي في صورة الطبيبة هدى كوسيلة الراوي لتقديم الحل الشفائي للعقدة الدرامية أو لحظة التنوير التي تغير منظور البطل للأبد.

يظهر الطب النفسي كصناعة مأزومة بالكامل ومتأثرة بسياقها الاجتماعي، تمتلك هدى عيادة عملاقة تقدم أنشطة العلاج النفسي بالجلسات واليوجا والرقص والطاقة. لكنها لا تمتلك مالاً كافياً لدفع إيجارها لذلك تتنوع أنشطتها بين الظهور على وسائل التواصل، والتعطش للدعاية كوسيلة لإنقاذ عملها.

الفنان أمير عيد، والفنانة نادين من مسلسل «دواعي السفر»

تظهر هدى في المسلسل كحيلة درامية لجمع الأبطال في سياق واحد، لا تخرج من جعبة الطب النفسي دواءً لأبطالها، إنما تنضم لهم كإنسان ناقص معذب بوحدته في زواج مسيئ، تتعرض فيه للخيانة والاستغلال بينما يتغذى فيه زوجها على حضورها وشهرتها ليزدهر عمله.

تبدو هدى كشخصية افتراضية أكثر بريقاً بكثير من حقيقتها، تحول وحدتها مثل الجميع إلى عدوان على الذات بقبولها أن يعود زوجها ليحتل عيادتها ويستغلها من جديد.

في أحد المشاهد تخبر الطبيبة البطل علي أن الطب النفسي سلعة باهظة الثمن، لا يقوى الكثير على تحمل ثمن العيادة والجلوس على أريكة الطب النفسي لحل مشكلاتهم.

يتخفف المسلسل بذكاء من التقديم السهل للطب النفسي كحل أوحد للوحدة، ويقدم بدلًا منه فكرة نادٍ أكثر شعبية وعفوية.

من الشمال: الفنان أيمن الشيوي، السيناريست مريم نعوم، الفنانة نادين، الفنان كمال الباشا من مسلسل «دواعي السفر»

يتحول النادي الذي يؤسسه الأبطال مع دعوة الجميع للانضمام له إلى حيلة أكثر واقعية وديمقراطية، حيلة عابرة للطبقات، تتجاوز حي المعادي الهادئ الذي يقطنه سكان الطبقة فوق الوسطى ووارثو المجد القديم، وتتجاوز سكان المدن الجديدة الذين يملكون ثمن اللجوء للطب النفسي، ليصير النادي حلاً جماعياً يمكن تأسيسه في أي وقت وأي مكان وأي طبقة (حتى الطبقات التي لا تمتلك ثمن العيادة النفسية وتراها رفاهية).

من الشمال، الفنانين: سمير حكيم، أحمد غزي، دينا وائل من مسلسل «دواعي السفر»

لذلك ينضم له ثنائي ثري من زوج وزوجة يعملان في مجال المجوهرات والبنوك وطباخ بسيط من طبقة أقل لا تشبه من حوله.

صنع البطل في «Fight Club - نادي القتال» لأجل الأسباب ذاتها، حيلة ديمقراطية لهدم الفروق الطبقية، بداخله يمكن لعامل بسيط أن يوسع ثري ضرباً، ويمكن لسكير أن يسخر من قس دون خوف. في «نادي القتال» يصير العنف عاطفة جماعية تدمر الرأسمالية التي قسمت العالم إلى طبقات صارمة.

في «دواعي السفر» يصير نادي الوحدة حيلة جمالية لمخاطبة جمهور يدرك جيداً أنه يحيا في أكثر العصور تواصلية بالمعنى التكنولوجي وأكثرها كدحاً بالمعنى الرأسمالي، إذ يبشر فيه المتحدثون التحفيزيون بالعمل لأكثر من 16 ساعة كعقيدة لازمة للنجاح ولا يكفر بها إلا كسول.

لن تواجه الفقد وحيداً

ينتهي «دواعي السفر» بموت القبطان إبراهيم، موت خفيف مثل ريشة طائر تتهادى نحو السماء، موت خفيف لرجل تخفف من أثقاله وذاق طعم الحياة قبل الموت، لا تعد الحكاية بترياق للفقد كشعور لا بد من اختباره في دراما الحياة، إنما تعدك بأنك لن تواجهه وحيداً.

الفنان أمير عيد والفنانة سلمى الكاشف من مسلسل «دواعي السفر»

تقدم أغنية النهاية معضلة الحكاية كاملة في وحدة تسجن أصحابها في غرفة باردة:

«وحدة بعد نص الليل

وحدة واقفة بيني وبينك

وحدة قالت انت فين».

وتقدم الأغنية الترياق كذلك، في وصال الآخر كمرآة نرى فيها أكثر نسخنا جمالاً، وقطعة بازل تكمل أحجيتنا الناقصة، ووسيلة أكثر نضجًا لننجو من تحويل الوحدة إلى عدوان على الذات:

«أروح لفين

تبقا معايا

نحلم سوا إحنا الاتنين».

# مسلسل دواعي السفر # مسلسلات مصرية # دراما مصرية # دراما # فن

أجساد بطولية: تاريخ قمع الجسد الأنثوي
فيلم Trap: كيف يصبح رعب القتلة المتسلسلين ممتعاً
القاتل المأجور على الشاشة: أبطال دون بطولات

فن